إمام الخائفين وقدوة المتقين هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فما هو موقفه من الخوف، وما مدى خشيته؟ وما مقدارُ رهبته؟ يقول – صلى الله عليه وآله وسلم –: (أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له). [/COLOR]
كان –صلى الله عليه وآله وسلم– إذا ثلث الليل قام فقال: (يا أيها الناس اذكروا لله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه).
لقد كان من دعائه – صلى الله عليه وآله وسلم – قوله: (اللهم أسألك حشيتك في الغيب والشهادة).
تقول عائشة –رضي الله عنها– قام ليلة من الليالي فقال: (يا عائشة ذريني أتعبد لربي)، قالت: قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل بيكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض. جاء بلال يؤذن بالصلاة فلما رآن يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ٌ﴾ ... [آل عمران: 190 ]).
جلس – صلى الله عليه وآله وسلم – على شفير القبر في جنازة لأحد أصحابه فبكى حتى بل الثرى، ثم نظر إلى أصحابه ونفسه واجفة، وعينه واكفة قائلا لهم: (يا إخواني، لمثل فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدو).
كان –صلى الله عليه وآله وسلم– لشدة خوفه وعظيم خشيته وبديع رهبته يطير قلبه فزعًا ويخفق فؤاده خوفًا، ويتغير وجهه حزنًا لأن تغير يطرأ في الجو أو عارض يلوح في الأفق، إذا هبت العواصف خاف ولجأ إلى ربه بالدعاء إذا انعقد الغمام خاف، فإذا رأى غيمة أو ريحًا عرف ذك في وجهه وإذا كسف الشمس خاف.
قالت عائشة – رضي الله عنها –: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عرفتُ في وجهك الكراهية، فقال: ( يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا ).
وكسفت الشمس في عهده –صلى الله عليه وآله وسلم– فخرج فزعًا مذعورًا لدرجة أنه نسي رداءه فأدركوه به، وقام بين يدي ربه قيامًا طويلا، وصلى صلاة طويلة، وأخذ يدعو ويرجو وينطرح بين يدي ربه جل وعلا ويبكي ويقول: (لم تعدني هذا وأنا فيهم، لم تعدني هذا ونحن نستغفرك) وكان يتسلل في ظلمة الليل وغفلة الأهل ونوم الأعين ينطرح بين يدي ربه – جل وعلا – يدعوا ورجوه، ويستغفره ويناجيه.
تقول عائشة: فقدت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: (اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
ولقد كان –صلى الله عليه وآله وسلم– يزرع الخوف في نفوس أصحاب، لعلمه بحسن عاقبة الخائفين، وعظيم كرامة المشفقين، يخوفهم بعظمة الله، يخوفهم بعذاب الله، يحذرهم من بطش الله،
وخطبهم –صلى الله عليه وآله وسلم– في يوم من الأيام فقال: (عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرً) فما أوتى على أصحاب رسول الله يوم أشد من ذلك اليوم وغطوا رؤوسهم ولهم خنين من البكاء.
ووعظهم –صلى الله عليه وآله وسلم– في يوم من الأيام موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم تمسكوا به وعضوا عليها بالنواجذ).
وكان –صلى الله عليه وآله وسلم– يبكي لموعظة القرآن، ويهتز لنداء الرحمن، بل شاب رأسه لهول ما حملته بعض السور وما قررته بعض الآيات، حيث قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت).
قال لابن مسعود: (اقرأ عليّ القرآن)، فقال: يا رسول الله، آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (إني أشتهي أن أسمعه من غيري) فقرأ عليه من سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدٌ﴾ ... [النساء:41] فرفع رأسه ونظر إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– فإذا عيناه تذرفان. لقد تذكر -صلى الله عليه وآله وسلم– ذلك اليوم الرهيب، والموقف المهول، والمشهد المخيف، يوم يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض، ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ٌ﴾ ... [الحج: 2 ].
وكان –صلى الله عليه وآله وسلم– يغتنم الفرص ليذكر أصحابه ويخوفهم بآيات القرآن الكريم فيقرأ قوله تعالى: ﴿ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ٌ﴾ ... [آل عمران: 102] فيقول: ( لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه ).
وهكذا كان خوف -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهكذا كانت خشيته لربه، وهو إمام المتقين وصفوة العالمين، ما قارف خطيئة، وما تلطخ بمعصية، وما تعرض لخطأ، ومع كل ذلك كان في الخوف آية، وفي الخشية قدوة، وهكذا عمر بالخوف قلوب أصحابه، وأحيا بالترهيب نفوسهم، وأيقظ بالخشية ضمائرهم، فأتوا بالعجائب، وجاءوا بالغرائب، أثمر ذلك الخوف في حياتهم فضربوا للدنيا أروع الأمثلة في التقوى، وبلغوا القمة في العبادة، والغاية في الزهد، طهرت نفوسهم، وزكت قلوبهم، وعظمت أعمالهم، وحسنت أقوالهم، خافوا الله تعالى فأخاف منهم كل شيء، وخضعوا له فخضعت لهم الرقاب وذلت لهم الأمم، ودانت لهم الشعوب:....
بس أبي ردودكم